"ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2] الكتاب: القرآن، والريب: الشك" قال السدي عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس - ا -، وعن مرة الهَمْدانيّ عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: لاَ رَيْبَ فِيهِ: لا شك فيه.
على كل حال السلف يفسرون اللفظة بما يقرِّب المعنى، فلا تكاد تجد في تفسيرات السلف التدقيق والتنقير بالعناية بذكر المعاني التكميلية، والاشتغال بالفروق بين الألفاظ بناءً على ذلك، وإنما يفسرونها تفسيراً يقرِّب معناها فحسب، ولهذا فهم يفسرون الريب بالشك.
وعلى قول من يقول بوجود الترادف في اللغة، وفي القرآن؛ يمكن أن يكون هذا منه، والذين يفرقون ويقولون: لا يوجد في القرآن مترادف، يقولون: الريب غير الشك، وإن كان يشترك معه في المعنى الأصلي وهو وجود التردد؛ لكن الفرق بين الريب وبين الشك هو أن الريب شكٌّ مع قلق، وبعضهم يقول: شكٌّ مع وجود تهمة.
وابن القيم - رحمه الله - يذكر بين الشك والريب سبعة أوجه من الفروقات، في المعنى، وفي الاستعمال، ما تقول: أنا والله مرتاب هل الشمس خرجت الآن وإلا ما خرجت، لكن تقول: أنا أشك الآن في خروج الشمس، فلو أن إنساناً دخل في مكان فهذا الدخول قد يكون مريباً فيبعث على القلق أو التهمة، إذ هو ليس مجرد شك.
فعلى كل حال إذا أردنا أن نبحث عن المعاني الزائدة عن المعنى الأصلي يمكن أن نقول: إن ثمة فرقاً بين الريب والشك، فالله يقول: لاَ رَيْبَ فِيهِ يعني ليس فيه شك، أو لا يلحقه شك أو تهمة، أو لا يبعث على القلق هل هو حق أو ليس بحق.
المقصود أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ أي: لا شك أنه موحى من الله هذا هو المعنى المتبادر، ومما يؤخذ من هذه الآية، وما تحتمله أيضاً، ويمكن أن يجتمع ذلك جميعاً فتفسر به أنه ليس فيه ريب أنه من عند الله، ولا يتضمن أموراً تبعث على الريب من وجود تناقضات كما في كتب المتقدمين التي حرفت، فالقرآن ليس فيه شيء يبعث على الريب لا في ألفاظه، ولا في معانيه.
وأيضاً قوله - تبارك وتعالى -: لاَ رَيْبَ فِيهِ هذا نفي، ومثل هذا النفي إذا ورد في أوصاف الله ، أو أوصاف الرسول ﷺ، أو أوصاف القرآن؛ فإن القاعدة أنه يتضمن ثبوت كمال ضده، فإذا قال: لا ريب فيه فهذا يتضمن ثبوت معنىً وهو أنه مشتمل أو متضمن لكمال اليقين.
وفي قوله - تبارك وتعالى -: لاَ رَيْبَ فِيهِ نفي الريب عنه هذا لا شك أنه واقع موقعه، وأن ريب من ارتاب إنما جاءه إما لفساد قصده، أو لقصور فهمه، وإلا فالقرآن من حيث هو ليس فيه ما يبعث على الريب، ولا ريب أيضاً أنه من عند الله موحى، وأدلة ذلك كثيرة جداً، ويكفي الإعجاز.
وليس معنى هذا أنه لا يرتاب فيه أحد، فالله قال: لاَ رَيْبَ فِيهِ، والذين ارتابوا إنما أتوا من فساد قصدهم، أو من فساد تصورهم، وقصور فهمهم وعلمهم، فهو لا ريب فيه وإن ارتاب فيه بعض الناس.
وقاله أبو الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد، وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم في هذا خلافًا"، ومعنى الكلام: أن هذا الكتاب - وهو القرآن - لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة: آلم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ [سورة السجدة:1-2]. هذه الآية في سورة السجدة ترجح أحد الموضعين في الوقف في الآية، فمن المعلوم أن قوله: لاَ رَيْبَ فِيهِ إما أن يكون الوقف على رَيْبَ فتقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وإما أن تقف على فِيهِ هكذا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ، هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، ويختلف المعنى بهذا الاعتبار.
فهذه الآية في سورة السجدة لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ المعنى واضح جداً فيها حيث نفى عنه الريب، فيكون الوقف على قوله: فِيهِ، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ فنفى عنه الريب، ثم وصفه بأنه هدى للمتقين، وهذا أبلغ من الوقوف على قوله: لاَ رَيْبَ، فكأنه يقول: ذلك الكتاب لا ريب ولا شك، فيه هدى للمتقين، فإن وصف القرآن بأنه هدى أبلغ من قولك: في القرآن هدى؛ لأن القرآن كله هدى، فهذا أبلغ من الأول، وبالتالي يكون الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ أحسن من الوقف على قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ، لكن لا يقال: إن الوقف على الثانية منكر، وينكر على صاحبه، وأنه أفسد المعنى، بل هو محتمل، ومعلوم أن كثيراً من قضايا الوقف هذه إنما مرجعها إلى النظر والاجتهاد بحسب ما يلوح من المعنى.
وقال بعضهم: هذا خبر، ومعناه النهي أي: لا ترتابوا فيه.على كل حال هو خبر لا ريب فيه يمكن أن يقال: إنه يتضمن النهي، أي لا ترتابوا فيه، مثل قوله تعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2] هذا خبر يتضمن الأمر، بمعنى أن الله يعلمهم كيف يحمدونه، قال تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ [سورة النمل:59]، فالحاصل أن الله علمهم بذلك من أجل أن يحمدوه، وقل مثل هذا أيضاً في مواضع أخرى في كتاب الله كقوله في سورة البقرة أيضاً: وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ [سورة البقرة:272]، فلا شك أن الصيغة صيغة خبر، وهو مع هذا يتضمن طلب الإخلاص، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الآية تدل على اشتراط الإخلاص وطلبه، فهي على سبيل الشرط، وإن لم تكن الصيغة صيغة طلب لذلك.
ومن القراء من يقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ، ويبتدئ بقوله تعالى: فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، والوقف على قوله تعالى: لاَ رَيْبَ فِيهِ أولى للآية التي ذكرناها؛ ولأنه يصير قوله تعالى: هُدًى صفة للقرآن، وذلك أبلغ من كون: فِيهِ هُدًى، وهُدًى يحتمل من حيث العربية أن يكون مرفوعًا على النعت، ومنصوبًا على الحال.
طبعاً المرفوع لا تظهر علامة الرفع عليه هنا؛ لأن آخره حرف علة، فالألف من حروف العلة لا تظهر عليه الضمة، ولا الفتحة، ولا الكسرة، لا تظهر عليه حركات الإعراب للتعذر.
وخصّت الهداية للمتَّقين. كما قال: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [سورة فصلت44].هذا جواب لسؤال هو: لماذا خص الله الهدى بالمتقين مع أن القرآن هدىً عام للأحمر والأسود، فلماذا خصه بالمتقين كما قال الله : يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [سورة المائدة:16]، فالقاعدة في هذا الباب أن الشيء قد يكون عاماً فيصح أن يخص ببعض أفراده لكونهم المنتفعين به، حيث يصح في كلام العرب أن يخص الشيء العام في بعض الأفراد؛ لأنهم هم المنتفعين به مع أنه عام، فالقرآن هدى لجميع الخلق، وعلى كل حال جاء وصف القرآن بهذا، ووصف القرآن بهذا، وجاء فيه التفصيل بأنه هدىً للمتقين، وأن الذين لا يؤمنون يكون سبباً لعماهم، فإذا أنزلت السورة وقع لهم التخبط والعمى فيقولون: مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا [سورة المدثر:31]، ويقولون: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124]، ويقولون: مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، إذا خرجوا من عند النبي ﷺ فهؤلاء أهل النفاق لا يفهمون، ويكون ذلك سبباً لمزيد من غوايتهم فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة:125] نسأل الله العافية.
وقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [سورة الإسراء:82]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن؛ لأنه هو في نفسه هدى، ولكن لا يناله إلا الأبرار، كما قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس:57].يعني أن القرآن موعظة للجميع وشفاء لما في الصدور، وهو هدىً أيضاً، ولكن لما كان الذي يهتدي به هم أهل الإيمان خصهم بذلك، وإلا فهو عين الهدى، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله ، ومن ثَمَّ فإن وصفه بالهدى بهذا الأسلوب لا شك أنه يدل على أن القرآن مشتمل على حقيقة الهدى في ألفاظه ومعانيه بكل ما يمكن أن تحتمله لفظة هُدًى.
قول الله : وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ: ما قال: ننزل من القرآن ما هو دواء؛ لأن الدواء قد يتخلف معه البرء، وقد يحصل عكس المقصود من تعاطيه، لكن الله قال: شفاء، وكذلك في العسل والنحل قال الله عنه: يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ [سورة النحل:69]، ما قال: فيه دواء للناس.
وعن ابن عباس وابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ و: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ يعني: نورًا للمتقين.على كل حال هدىً يعني نوراً وغير ذلك من المعاني التي يقرب بها هذا، والهدى لا يخفى، لكن هل هذا الهدى هنا المراد به هداية التوفيق، أو هداية الإرشاد، أو أنه مشتمل، أو أن المراد بذلك الأمران؟ كل ذلك محتمل، فبعض أهل العلم يقولون: هدىً للمتقين المراد هنا هداية التوفيق، وذلك أنه خصهم به، فهم الذين تحققت لهم الهداية، وبعضهم يقول: المراد به هداية الإرشاد، لكن لما انتفعوا به خصوا بذلك، وعلى كل حال كل هذا يصح في تفسير الآية، فيقال: القرآن هدى للمتقين، فهو يبصرهم بالحق، وبكل ما يحتاجون إليه مما تكون به سعادتهم، ويرشدهم إلى كل خير، فهو إرشاد ودلالة بهذا الاعتبار كما أنه هداية بمعنى الإرشاد ودلالة يدل على الله لعموم الخلق، يعرفهم بالله، وبأسمائه، وصفاته، وما يليق به، يأمرهم بتوحيده، فهذا كله من هداية الإرشاد والدلالة، وهو هدى للمتقين الذين آمنوا بالله ، واهتدوا بالقرآن وانتفعوا به، ولا شك أن هذه الهداية التوفيقية حصلت لمثل هؤلاء.
لكن يبقى سؤال آخر وهو أن الله قال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ هذا وصف للقرآن كله أنه هدى للمتقين، فهل معنى هذا أنه قبل أن ينزل عليهم كانوا متقين؟
قال الله عن الكتاب: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، فهو وصف هذا الكتاب بكامله أنه هدى قبل أن ينزل، ولمَّا نزل كان هدى للمتحققين بالتقوى المتصفين بها.
بعض أهل العلم قالوا: إن الكتاب المقصود به التوراة أو الإنجيل، حيث قالوا الله يقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ وذلك إشارة للبعيد، والإشارة للقريب تكون بـ(هؤلاء) إذن: ليس المقصود بهم الذين نزل عليهم القرآن وإنما المقصود بالكتاب التوراة أو الإنجيل هدىً للمتقين، لكن هذا القول بعيد جداً، بل هو وصف لهذا القرآن.
والذي جعلهم يقولون هذا القول - وهو موجود في كتب التفسير - أمور:
الأول: أن الكتاب يطلق على جميع القرآن، ويصح أن يطلق على بعضه مما نزل منه، كما يصح أيضاً أن ينزل ما لم ينزل منزلة ما نزل بأنه متحقق الوقوع والنزول، فيسمى الجميع - ما نزل وما لم ينزل - بهذا الاعتبار يسمى الكتاب.
الثاني: أن الله عليم حكيم، يعلم حال الخلق، فهؤلاء الذين وصفوا بالتقوى في قوله: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ يوفقهم الله ، ويهديهم لما علم من صلاح قلوبهم، وصحة مقاصدهم، فيهديهم، وهان عليه تعالى أقوام، وعلم فساد حالهم، وقلوبهم، وما انطوت عليه نفوسهم فأذلهم، فلم ينتفعوا بهذا القرآن، ولم يدخلوا في الإسلام أصلاً.
ونجد أيضاً أن هذه القرآن يشتمل على ألوان الهدايات مما فصله الله في بيان الأحكام التي نزلت تباعاً، وبيان حقائق الإيمان وما إلى ذلك، فهذا كله لا شك أنه هدايات لمن دخلوا في الإسلام، وهم الذين يستحقون الوصف المذكور وهو التقوى، والمقصود من تحقق التقوى هنا هو الدخول في الإسلام وإلا فالتقوى تعرفون معناها وما جاء فيها.
"عن ابن عباس - ا - قال: هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ قال: هم المؤمنون "الذين يتَّقون الشرك بي، ويعملون بطاعتي".
وعنه للمتقين قال: "الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به"، وقال قتادة لِّلْمُتَّقِينَ هم الذين نعتهم الله بقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ [سورة البقرة:3] الآية والتي بعدها، واختيار ابن جرير: أن الآية تَعُمّ ذلك كله، وهو كما قال".على كل حال هو ذكر شيئاً من أبرز صفاتهم بعده الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة البقرة:3]، كما يقول الله في صفات أهل الإيمان، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [سورة الفرقان:63]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [سورة المؤمنون:1-2] إلى آخره مع أن هذا ليس حصراً لأوصافهم، وإنما يذكر طرفاً من أوصافهم، أو قد يذكر أبرز وأهم الأوصاف وهكذا، وهذا لا يشكل على كل حال؛ فكل هذه الأقوال التي قيلت لا منافاة بينها، ولا نحتاج إلى شيء من الترجيح، فنقول: هي أقوال صحيحة، ولا شك أن المتقين هم الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وهم الموصوفون بكل ما ذكر.
"وقد روى الترمذي وابن ماجه عن عطية السعدي قال: قال رسول الله ﷺ: لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس[1]، ثم قال الترمذي: حسن غريب".على كل حال هذه الرواية معروف ما فيها من الضعف، وقضايا التصحيح والتضعيف هي من القضايا الاجتهادية، وبالتالي لا تضيق ذرعاً إذا قال لك أحد: بأنه يشترط أن لا يضع في الكتاب إلا روايات صحيحة، ثم تجد بعض الروايات يقال عنها: إنها ضعيفة؛ لأن هذا كله من قبيل الاجتهاد، فالناس يجتهدون، وقد يختلفون في بعض أصول وقواعد الجرح والتعديل، أو بعض قضايا المصطلح، ويقع بينهم التفاوت حتى في تطبيقها، فعلى كل حال المعنى الذي ذكر في قوله: لا يبلغ العبد أن يكون من المتَّقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا لا شك أن هذه من أرفع مراتب التقوى وهي الورع عن الأمور المشتبهة، والورع عن الأمور المكروهة، والورع عن التوسع في الدنيا مما يقعده عن بلوغ المقامات العالية في منازل العبودية، كل هذه الأنواع الثلاثة في الورع - يعني غير ترك الحرام - لا شك أنها إذا تحققت توصل العبد إلى درجة عالية في التقوى، يترك ما لا بأس به من التوسع في المآكل ونحو ذلك، وكان هذا هو مذهب عمر ، وكان يتأول قوله - تبارك وتعالى -: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا [سورة الأحقاف:20]، وتعلمون تنزه بعض الصحابة عن بعض الأشياء من اللباس الفاخر جداً، وكل إنسان في هذا الباب بحسبه.
ولذلك لا يليق بالعالم أن يسكن القصور، لكن هذا قد يصلح لبعض العامة من أهل السعة والغنى أما العالم لا يصلح له هذا، وقد لا يصلح له أن يركب المراكب الفخمة جداً التي تنشد إليها أنظار الناس؛ لأن هذا قد يكون نقصاً في حقه، مع أن العامة يترفعون بمثل هذه الأمور، ويكملون نقصهم بمثل هذا البهرج، أما العالم فلا، وكذلك قد لا يصلح للعالم أن يلبس فاخر الثياب، ونفيس الثياب؛ ذا الثمن الغالي جداً، لكنه يلبس اللباس النظيف المعتدل الذي يليق بمثله، وهكذا، لكل أحد ما يلائمه، ويناسبه، فقد يكون هذا زيناً في حق أحد، وشيناً في حق آخرين.
ويطلق الهدى ويراد به: ما يقر في القلب من الإيمان، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله قال الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56]، وقال: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ [سورة البقرة:272]، وقال: مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ [سورة الأعراف:186]، وقال: مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا [سورة الكهف:17]، إلى غير ذلك من الآيات.
ويطلق ويراد به: بيان الحق وتوضيحه، والدلالة عليه والإرشاد، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [سورة الشورى:52]، وقال: إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ [سورة الرعد:7]، وقال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [سورة فصلت:17].وجه الاستشهاد بهذه الآية: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ على أنها هداية إرشاد؛ لأنها لو كانت هداية توفيق لكان لا بد أن يكونوا قد دخلوا في الإيمان؛ لأن الله لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، لكنهم ما اهتدوا، بل استحبوا العمى على الهدى فبقوا على الكفر، فهي هداية إرشاد، فمعنى هديناهم أي بيِّنا لهم الحق من الباطل، فآثروا الباطل.
وهنا مسألة وهي أن كل هداية مثبتة للنبي ﷺ فهي هداية إرشاد، وكل هداية منفية عنه فهي هداية التوفيق.
وقال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10] على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح، والله أعلم.بل هذا هو قول عامة أهل العلم من السلف والخلف، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ: أي بيَّنا له طريق الخير من طريق الشر، وأما القول الآخر في الآية أي: هديناه الثديين حينما يخرج من بطن أمه فيلتقم الثدي، فهذا القول في الآية بعيد ولا يتبادر، وإن كان الله قد هدى الرضيع إلى هذا، لكن هذه الهداية وهداية المخلوقات عموماً لما تقوم به معائشها، ومصالحها؛ كلها تسمى هداية فطرية.
وأصل التقوى التوقي مما يكره؛ لأن أصلها "وقوى" من الوقاية.التقوى على وزن فعلى، وأصل مادة التقوى من الناحية التصريفية وقي، فقول الحافظ ابن كثير: "وقوى" لأنها أحد أطوار التصريف، فالتصريف يمر بأكثر من طور فيما يعللون به في الإبدال، فهي "وقي" فأولها حرف علة، وآخرها حرف علة، فهي معتلة الأول، ومعتلة الآخر، فأبدل حرف العلة الأول، وأبدل حرف العلة الأخير فصارت بهذا الاعتبار تقوى، يعني تستطيع أن تقول: إن المراحل "وقي" فأبدل الأول تاء، وصارت تقي، وحتى تعرف أن ابن كثير - رحمه الله - ما أخطا، فبدلاً من أن تقول: أبدل الأول قل: أبدل الأخير، أي أبدلت الواو ألفاً، فالذي ذكره ابن كثير يمكن أن تكون المرحلة الوسطى في أطوار التصريف.
وقد قيل: إن عمر بن الخطاب سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له: "أما سلكت طريقاً ذا شوك؟ قال: بلى، قال: فما عملت؟ قال: شمرت واجتهدت قال: فذلك التقوى".
- أخرجه الترمذي في كتاب: صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ باب: ما جاء في صفة أواني الحوض (2451) (ج 4 / ص 634)، وابن ماجه في كتاب: الزهد - باب: الزهد في الدنيا (4215) (ج 2 / ص 1409)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6320)